الأحد، 27 أكتوبر 2013

عصافير الـ .... نار..!

Credits: https://www.facebook.com/pages/Beautiful-Minds/270422259702807
...

- إنه الإيفو-نفرنوس
- ماذا؟ من؟؟!

ألتفت إلى يميني لأجده جالسًا مستقرًا متربعًا على حافة السور، دقيق الوجه، حاد القسمات، مُبيَّض الشعر منثوره في رأسه ولحيته، قصير نحيل، لا يبدو عليه الخبال رغم هيئته الموحية، مغمضًا عينينه كأنما يمارس اليوجا... كان غريبًا بحق، وما قاله..!، ثم ما الذي أتى به إلى هنا؟ ما الذي أتى بي أنا إلى هنا؟

- الإيفو-نفرنوس .. الإيفو-نفرنوس بني .. ستعتاد تلك المسميات إن بقيت هنا فترة أطول.

كلامه الدقيق الواثق هذا يثير الريب، ويأجج الحفيظة، يتفصد العقل عن ألوف الأسئلة، ولكن –وكما تعلم- فاللسان دومًا أبطأ، وربما خرج بآخر ما تتمنى أن تسأل عنه:

- ماذا تقصد بالبقاء لفترة أطول؟

لقد رأيته في مكان ما، أنا متأكد من هذا، أشعر شعورًا عميقًا بالألفة، والبهجة ....! لِمَ أشعر بالبهجة؟! لا أعرف..!

- من سبقك هنا لم يكمل ليلته، ثم ذهب.
- ذهب... إلى أين؟

أدار رأسه في ثبات، ثم فتح عينيه وئيدًا، نظر إليّ مطولًا يتفحص عينيّ، فأجفلتُ ناظرًا للأفق.. هل تعرف تلك النظرة التي تخترق الحجب؟، إنها تتجاوز كل الحواجز النفسية التي نضعها أقنعة، تخترقك للأعماق، تشعرُ بأن ناظرها يتجول في ذكرياتك، يقرأ ما تفكر فيه... تتداعى نفسُك كشجرة خريفية تنزف وريقات الألم.........

- لا أعرف بني .. قام من هنا .. وسار على الحافة إلى نهايتها .. ثم قفز .. هناك .. حيث لن أذهب أبدًا.

شيء ما في كلامه يضرب أوتارًا في روحي، أميل برأسي إلى حيث يشير .. ضباب ..!

- أين أنا؟
- معرفتك لن تؤثر بني .. بل استغراقك في التفاصيل .. سيقتلك..!
- من أنت؟

يعلو وجهه شبح ابتسامة:

- أنا .... 
- كوااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااك

يقاطعنا صوت ذاك الطائر البهي، إنها المرة الأولى التي أرى فيها طائرًا بهذا الجمال، ممتليء الجسم أقومه، غزير الريش ناعمه، اصطبغ لونه بحمرة تتنفس حياة، واكتست حمرة جناحيه بسواد أظهرهما، عيناه تلتمعان كأنهما شمسان سوداوان، ورأسه مغطى بزغب برتقالي تضيئه الشمس... كان يصعد إلى الأعلى بلا انقطاع، يتمايل رشيقًا قويمًا منسجمًا غير مضطرب، ثم استدار نصف دورة إلى يساره، وجعل يتهاوى ناحيتنا، كان اقترابه سريعًا كالبرق، واصطدامه وشيكًا كالموت، فكدتُ ألقى بنفسي من فوق السور، ولكنّ صاحبي لم يحرك ساكنًا، فتثبَّتُ، عاد يدور إلى يمينه بينما اقترب منا حتى ظننت جناحه قد لامس أنفي، ربما لم يكن ظنًا في النهاية، فأنا أشعر برائحته تملأني؛ هي كعطر يتبخر في تنور، عطر يدفع الدماء في عروقك فيبقيك يقظًا منتشيًا.
أفيق من سكرتي على صوت صاحبي مبتسمًا متسعةً عيناه:

- الإيفو-نفرنوس .. عصفور النار .. إنه أجملهم على الإطلاق..!

قالها واتسعت ابتسامته، ثم تابع:

- أحببته .. أليس كذلك؟
- اممم .. بلى .. بل لم أفعل .. ها .. لا أدري، ولكن تأثيره قوي للغاية .. إنه يسرق روحك .. أتعلم؟
- نعم بني .. أعلم .. تابعه إذن .. إنه يدور لأجلك.
- لأجلي أنا؟
- نعم.
- وما أدراك؟
- أنا أعرف هذا، كما لا تعرف أنت أين أنت..!
- ولكن ...
- صه.. تابعه.

عاد الإيفو-نفرنوس يحلق عاليًا، ينخفض، ويرتفع، يتمايل، ويستقيم، ينظر في عيني مباشرة، ويهبني من ريحه الفواح، حتى توهج زغب رأسه كأنه تاج، أنار الطريق أمامه، فارتفع، وكلما ارتفع توهج التاج، فكشف طريقًا له، فيزداد شهوقًا، فتضطرب أنفاسي لارتفاعه، وكأنما قد سمع وقع أنفاسي فضاعف سرعته، ليزداد وهجه، ويطرد ارتفاعه، وتختلج أنفاسي، حتى ظننته قد شارف الخروج من مجال الكون كله تاركًا إياي مبهور الأنفاس محبوسها .. عندها .. اشتعل رأسه، دون إنذار، لم يوقفه ذلك عن التحليق، فلاذ بارتفاعه فرارًا، وزاد من سرعته هربًا، فما زاده سلوكه هذا إلا احتراقًا، حتى تبدد رماده في الآفاق، وعمت رائحته الأرجاء، واختفى صوته من الأرض والسماء.!

- أحترق؟
- أتظن هذا؟
- رأيته..!
- أتصدق كل ما تراه؟ 
- بالطبع لا..!
- ماذا تصدق إذن؟
- ما يراه عقلي..!
- أولا يمكنني خداع عقلك؟
- بلى.!
- فكيف إذن تصدقه؟
- لا أصدقه بالكلية بالطبع .. إنما...
- إنما ماذا؟ أهناك أيقن من العقل؟
- امممم .. لا أدري.!

هنا .. سكت صاحبي مطبقًا، وخيم الحرج موقفي، فطفقت أهرب في دهاليز عقلي أستتر، ناظرًا إلى الفسحة الخضراء ذات البواسق العالية والأنهار الجارية، حتى عاد صاحبي ينظر إليّ:

- اسمع بني .. التفاصيل مملة، والتحليلات مهلكة، والنتائج المستقرأَة ربما تكون مخطِئة، الشائع لا يعمم، والعام لا يخصص، والخاص نادر مستهلَك، الحوادث تقع، وإن صح التوقع، ما كان قد كان، وإن استخفت عليك كينونته، فدع عنك التأويل، واستمسك بالقليل، انظر .. أمعن النظر .. ودع قلبك يرى ..!

استغرقت في صمتي، بينما هبّ هو واقفًا فإذا طوله لا يجاوز المتر ونصفه، ثم اقترب مني حتى أحسست أنفاسه على وجهي، ناظرًا في عينيّ ذات النظرة الأولى:

- يمكنك الرحيل متى أردت.

قمت واقفًا بسرعة لا أدري ما أفعل، أكنت سجينه؟، لِمَ أتحرك إذن كمن يفر؟ من هو أصلًا؟ وما هذا المكان؟ أأجري؟ كيف على حافة السور وأنا أعاني رهاب المرتفعات؟ لم صار الضباب كثيفًا؟

- كوااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااك

الإيفو-نفرنوس ؟؟!!! .. صوت صارخ من الخلف:

- لا تنس الإيفو-نفرنوس بني.
- سأحاول..!
- لا تحاول بني .. افعل .. أو لا تفعل .. لا تحاول

هل هو ....!؟
ألتفت خلفي لأراه، فلا أرى سوى الضباب..! أتنشق نفسًا عميقًا من الغيظ، وأغمض عيني طويلًا، توازني يهتز، أتأرجح، أحاول السيطرة، مرة، فثانية، قدم تزل، أخرى تحاول، سأسقط .. بل سأقفز.

أنبوب سباحة دودي، أصر على إغلاق عينيّ بينما أتجاوزه، بينما صوت بعيد آخر يقترب:

- نمت قدام الفيلم ..!
- معلش .. كنت تعبان شوية.!

أعلى يمين الشاشة رمز القناة، وأعلى يسارها اسم الفيلم، فيما المعلم "يودا" يخاطب أحدًا ما:

- لا تحاول بني .. افعل .. أو لا تفعل .. لا تحاول.

...

تمت

...

الأحد، 21 أبريل 2013

السائق .. والسائق!!



....

كلنا يعرف تلكم الهيئة؛ البنطال القماشي المتسخ القصير، القميص الصيفي الأبيض المتلطخ، يكسوان جسدًا نحيلًا -لكنّه ممشوق- تشبع جلده بسمرة الشمس الذهبية، ثم تلك الطاقية التي يظن صاحبها أنها تميمة الحظ، والتي تذكرك كثيرًا بأبطالك الكارتونيين المفضلين..!

1

هناك ... يمشي وئيدًا، دافعًا عربة (الآيس كريم) في تلذذ وتسارع، تلك البسمة الراضية، تنم عن مجهود مضنٍ قد بُذل، أما عن النظرة المتلهفة فتشي بجوع يكابده الأبناء، هو فعلًا يحتاج .......... للمال.!

2

يرقب الأطفال .. واحدًا فواحدًا فآخر .. كلهم استقر في مقعده، كلهم يطالبه بالانطلاق، يحيل بصره إلى المُشرف (أبو بدلة ونضارة) فينظر له الأخير؛ أي انطلق.

- طيارة يا عمووووو

يبتسم، يضغط على الدواسات، يزيد من السرعة -في الحدود الآمنة، بينما يُخرج الأطفال رؤوسهم من النوافذ يستمتعون بالهواء.

3

ما زال الطريق طويلًا .. عشرون كيلومترًا إلى المدينة، يقطعها سيرًا على الأقدام، متحسسًا طريقه بين السيارات المهرولة على الطريق السريع.
ألم القدم عاوده .. يبدو أنه لن ينتهي أبدًا، يبدأ خافتًا، ويستمر طويلًا، يتصاعد تدريجيًا إلى أن يجرع دوائه في المساء...!

ربما هدأ قليلًا لو ارتاح ..!

- أأنت مجنون؟ ها هنا؟ على قارعة الطريق؟ وما زال على المدينة ما زاد عن الخمسة عشر كيلومترًا؟ ماذا لو زاد الألم بدلًا من أن ينقص؟ 
من أين له بالدواء الآن؟ هل يعد إلى البيت الأقرب؟ هل ينتهي يومه هكذا بين جيئة وذهاب؟ أم يقف في مكانه منتظرًا أن يلفت انتباه أحدهم؟ هل حقًا سليحظه أحد ما؟

بينما يسبح في خواطر تفيض بها عيناه المتلفتتان، إذ به يتوقف .. يشغل المذياع .. ويترك الصوت الشجي يؤنس بؤسه.

4

يتأمل الطريق الأسود يلمع بفضية الماء تحت أشعة الشمس، فيما يلثم وجهَه هواءٌ لطيف قادم من عالم آخر خارج قمرة القيادة.

المشرف صامت طوال الوقت يراقب، الأولاد يتمازحون، صوت المحرك الهادر يسليه، وحر الصيف يستنفذ مخزونه من الماء المُرطِب -العرق.

- عايز جيلاتي يا مستر.

صوت طفولي عذب، قد اقترب من المشرف شادًا كُمَّ قميصه ليسترعي الانتباه.

- لما نوصل يا حبيبي.
- لا .. الوقتي.!
- الوقتي هـ أجيبلك منين؟ .. روح اقعد مكانك.
- من الراجل دا.

5

أما وقد سمع الصوتَ قارئًا بكلام الله إلا وهدأت نفسه، وخفت ألمه حتى احتمل المسير..
والآن .. عليه متابعة الطريق .........

بييييييييييب بييييييييييييييب

لا يلتفت .. لا داعي للالتفات ..

بييييييييييب بيييييييييييييب

امممم .. يبدو أن هناك شيء ما .. مصيبة ما على وشك الحدوث ..

بييييييييييب بيييييييييييب

عليه الآن أن يتوقف ليرى ما يحدث..
يقترب منه الأوتوبيس .. حتى كاد يقذفه وعربته .. يتسمر الرجل في وجل .. لا يفهم ماذا يحدث!!.

يطل الأولاد من النوافذ كما المستكشفون لشيء عجاب، بينما يترجل زميلهم صاحب الطلب:

- واحدة جيلاتي لو سمحت.

يُحصِّل الغنيمة، ويبدأ في الالتهام وهو مستمتع في تلذذ، فيتبعه زملاؤه:

- وأنا واحد
- وأنا يا عمو 
..................

6

يتحسس جيبه:

- لا .. ليس في هذا الجيب، ربما الآخر

يغمغم:

- آه .. تذكرت .. آخر جنيه كان من نصيب الطعمجي.. هنيئًا للعيال!، لا داعي للـ (آيس كريم) الآن.

يقوم بتشغيل المذياع .. ويرتل الصوت الشجي يؤنس بؤسه.

7

يرقب الأطفال .. واحدًا فواحد فآخر .. كلهم استقر في مقعده، كلهم يطالبه بالانطلاق، يحيل بصره إلى المُشرف -وكان قد خلع البدلة- فينظر له الأخير؛ أي انطلق.

نسمات الهواء، لسعة الشمس، صوت الأولاد، صمت المشرف، مجهود إعداد (الآيس كريم)، رائحة العرق الصيفي، التلهف، دواسات السيارة، جفاف الحلق، آلام القدم، صوت الشيخ عبد الباسط يدخل إلى قمرة القيادة من عربة الآيس كريم:

- وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدونَ

فيَرِدُ ذات الصوت من القمرة إلى العربة:

- فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ

..... صوت المشرف:

- عم محمد .. الجيلاتية دي بتاعتك.!

-تمت-

...

الثلاثاء، 9 أبريل 2013

ومن العلم ما .. قتل، يقتل، قاتلٌ، وبهلول !


Insanity; by, Freakdearts
...

هناك .. في النقطة التي لا يمكنك أن تلحظ فيها كيانًا بشريًا قابعًا .. يقطن .!

تدل هيئته  على تسعين ربيعًا -بالأحرى خريفًا- من البؤس، فيما يشي لباسه بسر بؤسه؛ الفقر المدقع .. نحيل، غزيرُ الشعر أشعثه، كث اللحية ، حتى لا تكاد تميز ملامحه من الشعر الملبد، لكنك بالتأكيد تستطيع تمييز قدر القذارة الذي يستوطن تلكم الملامح..!!

هاتان العينان .. إنهما كل شيء .. السر .. الحب .. الحرب .. الشهوة .. التقوى .. الخوف .. واللاخوف .. إنه الحد الذي لا حد بعده !
لا تستقران أبدًا في محجريهما، تتابعان كل حركة بشكل تلقائي عصبي، لا ينبس ببنت شفه، فقط يومأ برأسه للجهات الأربعة بلا هدف -أو هكذا أظن .. ألك ظن مختلف ؟

****

لا يتجاوز العشرين من العمر، يتحرك بخفة بين الطاولات المرصوصة في عناية، بينما يحاول الزبائن عبثًا تشويه تلك النظامية المفرطة .. جيئة وذهابًا .. جيئة وذهابًا .. جئية وذهابًا .. جيئة وذهابًا .. ربما تمل أنت من سماعها، ولكنه لا يمل من حركته .. أبدًا.!!

في الخلفية يترنم (عبد الوهاب):

"جفنه .. علّم الغزل"

****

شابة أنيقة -بمقاييس أولاد الحارة- تجر طفلًا مشاغبًا بيد، بينما الأخرى مشغولة بمهاتفة أحدهم، تتحرك منحنياتها في تناسق شهي، بينما لا يكف الطفل عن الصراخ، لا تتمالك أعصابها فتصرخ في الطفل، يبكي، تعاود الكلام .. وكأنها أبدًا لن تنتهي..!

****

شيخ بدين، بقالة عتيقة الطراز، رائحة الأعشاب والمواد الغذائية تختلط في مزيج عجيب، استرخى لمقعده الخشبي المسكين فأنّت أرجله، بعينين زائغتين يرقب المارة ويتلفت، يخرج حزمة من تحت المكتب ويشرع في معالجتها.!

في الخلفية يتسربل صوت (الشيخ/ عبد الباسط عبد الصمد) بسورة يوسف:

"قال أنتم شرٌ مكانًا والله أعلم بما تصفون"

****

في هذا الوقت من اليوم تمر عقارب الساعة بلا أي حركة تصحبها، فيما خلا الحركة الاعتيادية التي أعدها سكونًا لرتابتها.

ينكشف النقاب عن مجموعة من البذور العشبية لها تلك الرائحة المألوفة، تنطوي جارها مئات من الجنيهات.........

إنها ترتب موعدًا ما مع شخصٍ ما في مكانٍ ما بعيدًا عن الرقابة، ورقابة شخصٍ ما آخر تحديدًا........

الشاي يُخلط بنشارة الخشب، بينما البن يُخلط بقشر الفول السوداني المحروق .. النسب مهمة وإلا فسد كل شيء .. وهو أبدًا لا يخطيء .........

****

في حركة غير مألوفة .. بطئية لكنها ساحبة للأنفاس يتحرك الكهل الأشعث الأغبر مترنحًا إلى وسط الميدان حيث يراه الجميع بلا اكتراث .. تتعاقب الحركات الغير مفهومة الغير هادفة .. تتحول إلى رقصة ما؛ رقصة على الطراز الإفريقي تتخللها كلمات صوفية تنساب مع الحركة في تلقائية عجيبة..!

بعضهم .. أدار رأسه إلى الكهل، وآخر أدار رأسه عن الكهل!

يتوقف بشكل مفاجئ ثم يصرخ بصوت يملأ الميدان برغم ضعف قائله، وارتعاش أحباله الصوتية، فيتوقف الجميع منصتون باهتمام:

دا غضب .. والله غضب .. ربنا زعلان منكم .. أنتم بتعملوا إيه .. بتعملوا إيه !!!!!!!!!!!

يتوقف .. وما زال الجمع متوقف .. في لحظة ساكنة .. لا حركة .. لا همس .. يرفع أكف الضراعة إلى السماء ويدعو بشيء ما .. ثم يعود إلى الحالة الراقصة بشكل هستيري .......!

تيييييييييييييييييييييييييييييييت ..

سيارة تظهر من اللاشيء، تتحرك في شكل دوائر لإبداء براعة السائق وتحكمه .. كل شيء تحت السيطرة .. أنا أتحكم .. أنا أقود .. أنا .... أنا ... المزيد من الأنا والمزيد من السيطرة .. 
.
.
.

طرااااااااااااااااااااخ ...


يتوقف الزمن .. تسقط القلوب إلى الأرض .. كل شيء يخرج عن السيطرة .. أصلًا لم تكن هناك سيطرة ..!، الصمت تتعالى وطأته حتى كاد يهشم الرؤوس، تعجز الصدور عن استيعاب الهواء .. ويهوي الكهل صريعًا ملطخًا بنقاء سريرته...

يقطع الصمت صوت (عبد الوهاب):

ومن العلم ما قتل ..!

بعض من دمع يُذرف، بعض من أنفاس تُلتقط ... ثم يأتي صوت (الشيخ/ عبد الباسط عبد الصمد) يتردد في الآفاق:

"وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون، وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون، أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون"

...

الثلاثاء، 5 فبراير 2013

حلّت الآزفة.!!



...
هذه القصة مقتبسة عن أحداث واقعية
...

يقولون .. الليلة الكوبيا بتبان من العصر .! ... أنت تعلم هذا جيدًا، كما أعلم أنا .. ويعلم هو..!
فلنعد إذن إلى ساعة العصر، ربما بعد صلاة العصر بحوالي الساعة ... 

هدوء....!

هدوء .. ذلك الهدوء الثقيل، قاتم اللون، عطن الرائحة، المنذر حتمًا بمصيبة ما، ولكن من فضلك لا تدع هذا الجو المقيت يؤثر على نفسيتك العزيزة.

هدوء .. مزيد من الهدوء .. ذلك الهدوء الذي يصفه د. (يوسف إدريس) بالسرمدي .. لا تشعر بالملل، بالحر، بالبرد، لا تشعر بشيء على الإطلاق.

هدوء .. يخالجك شعور قوي أنه سينتهي، سيؤول حتمًا إلى شيء ما........!

تتسابق العقارب في صراع محموم ليشيرا إلى تمام الثامنة مساءً ... تبدأ الآن طقوس العمل .. رتيبة، رقيقة، تحترق الساعات تلوها الساعات، تطل ذات الوجوه البائسة؛ الباحثة عن علاج لا يضني جيوبها فيما يعمل على شفاء أسقامها.!
لا شيء ..... لا شيء على الإطلاق......!

أنهى وحش النهار التهام ما يقرب من نصف وجبته –الليل- تاركًا النصف الآخر للمعذبين، البكائيين، المتضرعين، المذنبين ..... وآخرين.

ثم ........

بووووووووووووووم ... طاااااااااااااااااااااخ...!

ذات الصوت المألوف لانفجار "البومب" الرمضاني، الذي لا يهدف إلا استرواع الآمنين .!
أنت تعرف هذا النداء الخفي الذي يخبرك أن ما تراه ليس كما يبدو، هناك معنى أكثر عمقًا.!، هذا النداء الدفين من الأعماق يخبرك: هذا لا يمت لدوي "البومب" بصلة .. هذا أكثر تأثيرًا، أوقع، أثقل من المعتاد، تصحبه رائحة مألوفة لا أذكر أين شممتها قبلًا، ربما لم أفعل على الإطلاق.!

-إيه .. إيه .. في إيه؟؟؟!

تتعالى الصيحات المذعورة، تنطلق الصرخات الملهوفة، وما هي إلا لحظات حتى نُقل المشهد مجسمًا بشحمه ولحمه إلى مجال بصرنا.. أتذكر؟ أما زلت تذكر؟ أم تأثرت ذاكرتك بما حدث؟!

لم نر هذه الآداة إلا في الأفلام تقريبًا، هي أقرب ما يكون إلى "مسدسات الخرز" التي كنا نلهو بها صغارًا، لكنه حتمًا أثقل؛ صاحبه يحمله بيد ثابتة، لكنها مترددة كما تشي نظرات عينيه، إنه أجبن من أن يقتل بدم بارد.

طويل، نحيف الجسم، غزير الشعر أسوده، ربما لو كان فيلمًا أمريكيًا سبعينيًا لأضفنا الشارب الكث الذي يوحي بحرفيته في عالم الجريمة، وتلك القبعة المكسيكية التي تصوره لا يخشى حتى الله.!

يرقد أمامه جاثيًا على نصف ركبة آخر بدين الجسم بطيء الحركة، غابر الوجه، انفرط عقد جأشه فراح صارخًا:

-لأ يا أحمد .. لأ ..!!

الآخر لا يتكلم على الإطلاق، لا يتحرك، لا يتخذ أي خطوة فعلية للقضاء على الخصم. الهدف واضح تمامًا، ومجال التصويب بضعة أمتار ليس إلا، ربما الصدر هو مكانه المفضل؛ حيث يصوب، لكن الرأس أسرع لاحتوائه المخ بمراكزه الحساسة كما تعلم أنت .. ويعلم هو .. وأعلم أنا.!
إنه مشهد بديع حقًا؛ لا تُسئ فهمي أرجوك، أنا أقصد انطلاق الرصاص لا جثو الرجل في هذا الوضع المخزي المجرد من كل حول وقوة.

تقول الحكمة؛ ترى الضوء أولًا، ثم تسمع الصوت..!

وفي مسرحنا هذا خفتت كل الأصوات ما خلا همهمة متلهفة، أو وجيب قلوب مترقب، بينما ثبتت دائرة الضوء على البطلين اللذين تحولا إلى جزء من لوحة "موحد القطرين" الفرعونية الشهيرة، والكل سكون....!

العجيب، أنك لا تعرف تحديدًا متى بدأ، دائمًا البداية مشوهة، متى تحولت الساحة إلى هذا الكم من الصخب؟ ولماذا في هذه اللحظة دون غيرها؟ أنا لا أذكر .. هل تذكر أنت؟!

مع اطراد الصراخ الذكوري، والعويل النسوي، هاج بعضهم فانقضوا على الجاني محولين فوهة الطبنجة بعيدًا عن المجني عليه.

أتذكر؟ .. تلك الشرارة الدافقة، التي تتضخم بسرعة برقية، تلتحم وزميلاتها مكونة وحشًا أحمرًا يلقف بألسنته الملتهبة كل ما يعترض طريقه ...! 

للنار سحر .. ألا تتفق معي ؟!

ربما أصاب العطب أذناي جراء الصراخ فلم أسمع صوتًا يعقب الضوء، هذا أذكره بدقة .. أسمعت أنت؟

لا أعرف سر تلك النظرة الذاهلة المرعوبة على كافة الوجوه، لا أدري ما غير وجه الجاني إلى الامتقاع، لا أعرف سبب تحول العرق البارد على جبيني دافئًا، لا أدري ما خلف تلك الأضواء البراقة التي تفيض من السماء كالموج الهادر ولكن بلا صوت على الإطلاق.!
بالتأكيد أصاب أذنيّ خطب ما .. ألا ترى ذلك معي؟!

ثم لِـمَ تنظر إليّ بتلك الطريقة ..؟!

الأحد، 18 نوفمبر 2012

عن الغبي، و الانتهازي، و الفحلقي .. و أشياء أخرى!!

Game of Life.. By: Hu Zheng
...

1

الموت ..
الموت يا صديقي .. إنه عتبةُ الحكمة .. حبيبُ الدجالين النصابين ..!
الموت ..
الموت يا صديقي .. إنه الغاية .. و النهاية .. و تمامُ الأمورِ .. و نَقْضِها !

في أغنيتها الشهيرة -على مستواي- تقول كاري كيميل:

" عندما تصطبغ كل الموجودات بالسواد
لا تعرف أين تذهب
تريد شيء يُصلح روحك
ينكسر الصمت
تتبدد الثقة
و ينزلق كل ما تتمسك به

كل الناس يبيعون الحقائق الآن
في كل مكان
بعد انتظارهم أن يُجهز عليك الخوف "

في الواقع .. لقد لَخَصَتْ المسألة كلها .. و لم تترك لي شيئًا لأوضحه. دعنا الآن من ذا الحديث الذي ربما عددته غثًا إلى النقطة الأكثر أهمية...

هل يفزعك الموت ؟؟!!

امممم .. دهشتك هذه تعني أنك قد فهمت ما لم أعنه حقًا !! .. لنكرر السؤال بطريقة أخرى...

تلك الوجوه المنتشرة لأطفال و شباب و شيوخ و نساء قضوا نحبهم .. هل تفزعك ؟ هل ما زِلتَ تتبين ملامحها لترى البرودة عَمَّت سكنات وجه لم يعتد الهدوء ؟ 

لا تقلق .. أنت طبيعي تمامًا .. أجبت بنعم أم بلا .. فأنت طبيعي تمامًا.
إن كان الموت يفزعك فما زال في قلبك رقة .. روح تهفو للحياة .. تخشي السكون الممض هذا.
و إن كنت كـ -(أحدهم)- من أعرفه ككف يدي، فكل ما هنالك أنك فقدت قدرتك على التمييز لا أكثر، ربما كان السبب أنك قد رأيت -كصاحبنا- ما هو أبشع.

دعني إذًا أثير حنقك بسؤال آخر...

كم من الموتى تحتاج رؤيته حتى تضطرب ؟ كم قصة -و بأي شكل- تحتاج سماعها حتى ينقبض قلبك أو تسري القشعريرة في ظهرِك معلنةً أن الميتَ ليس أنت ؟

في الواقع .. سأطلب إليك أن تؤجل إجابتك ريثما أنتهي.. رجاءً.

...

2

إنّه عيدُ الأضحى المبارك .. أعاده الله على الأمة الإسلامية بالخير و اليمن و البركات.
يذيع التلفزيون المصري أنباء التواد و التراحم و انطلاق الـ ........ مُشيعين حاملين ما يقرب من 350 جثة إلى مثواها الأخير..!

تمرُ سنواتٍ أربع.. و تُطل علينا المذيعة الأنيقة إياها و قد ملأت وجهها من مساحيق الحزن:

"و بهذا تكون حصيلة القتلى 1417 منهم 950 مدنيًا و ما يزيد على الـ 400 طفل."

عدة سنوات أخرى .. يُقتل فيها آلاف الأبرياء في أنحاء الأمة؛ إما في حادثةِ طريقٍ أو قطارِ صعيدٍ أو مظاهرةِ سلميةٍ كانت أو داميةٍ، في مبارة للكرة أو في أوتوبيس المدرسة أو غيرها.. فكما يقولون: تعددت الأسباب و الموت واحد.

فـ هل يفزعك الموت ؟؟!!

...

3

البقرة انقهرت
حاحا
ف القهر انصهرت
حاحا
وقعت ف البير
حاحا
سألوا النواطير
حاحا
طب وقعت ليه
حاحا
وقعت م الخوف
حاحا
و الخوف ييجي ليه
حاحا
من عدم الشوف
حاحا
وقعت م الجوع
و من الراحة
البقرة السمرة النطاحة
ناحت مواويل النواحة
على حاحا
و على بقرة حاحا

لقد سقطت "البقرة" من زمنٍ طويل كما تعلم، و قد تقبّل أبناؤها بشجاعة -أو بخذلان إنْ شئت- أنها سقطت، و أبى أحدهم أن يهُب نجدةً لأمه..!

...

4

يتصدر أحدهم المشهد و يُصرح تصريحًا فولاذيًا حادًا كنصل السيف فيرتد عليه سيفه بأصوات بحها طولُ النداء و دوام البكاء فيفرقه نصفين .....
حسنًا.. ربما أكثر من نصفين لأنه ممزق أصلًا ...

يأتي آخر بذات المساحيق الحزينة السالفِ ذكرها، و يُزيد على زميلته السابقة نبرةً منفعلة مفعمة بالأسى ثم يفتح النيران على كل معارضيه.

المثير للدهشةِ حقًا -ربما للاشمئزاز كذلك- هو رد أحد البائسين الواقعين تحت القصف الشفهي هذا.. ردًا يتسمُ بالحَنَكة .. ربما الحكة .. أو الحنة .. أو ربما ذهان، شلل، أو شيء آخر أجهله !!

...

5

الأمر جد خطير، عويل، نحيب، شق للجيوب، دماء، دخان، يقفُ الطبيبُ مذعورًا لا يملك من حطام الدنيا -شاملًا سيارة الإسعاف- إلا قفازه الطبي، الأهالي يُهرَعون، و أرواح القتلي من الأجساد إلى ربهم ينسلون، الصراخُ سيد الموقف، و الهلعُ ضيف ثقيل يسحب القلوب إلى الأرض..!!

هل يفزعك الموت ؟؟!!

منذ عدة ساعات كان ذات الطبيب عند رأس أحدهم يغطي وجهه و يقرأ له الفاتحة ..!

هل يفزعك الموت ؟؟!!

منذ عدة ساعات كانت المذيعة إياها تستعد لإلقاء نشرة "الدنيا ربيع و الجو بديع"..!

هل يفزعك الموت ؟؟!!

منذ عدة ساعات كان السائق يُمني نفسه بأول ربع كيلو لحمة يدخل بيته منذ عيد الأضحى ، و عليه أن يُسرع لهذا.. 
بينما عامل المزلقان قد غلبه الجوع فذهب لابتياع عدة شطائر..
و رئيس الهيئة قرر أن يبدأ قهوة الظهيرة..
في حين سيادة الوزير كان يطالعُ عدةَ أشياءٍ بالتأكيد..

سائق القطار لا يأبه لأيٍ من هؤلاء، فالقطار لا ينتظرُ أحدًا إن لم تلحظ هذا..!

لا أحد منتبه للحظةِ التالية، لم يدر ببال أحدهم أنّ كارثة ما على وشك الحدوث، إذًا لتأهبوا مستعدين لها على غرار الإخوة اليابانيين.!

هذا مشهد يتكرر كثيرًا كما ترى و أسلفتُ.. لعله يُعاد عدة مراتٍ في الأعوام القادمة -و هو ما لا أتمناه بشدة !!

...

6

في الواقع .. الموتُ في ذاتِه ليس مفزعًا .. اممم .. ربما لم يعد كذلك...!!

المفزعُ حقًا هو كل هذا الغثاء اللاأخلاقي ..
المفزعُ حقًا هو هذا القدر من اللامبالاة؛ اللامسئولية المحببة لدى الجميع .. 
المفزعُ حقًا هو أن "أحمد زكي" قال: كلنا فاسدون، و لا أستثني أحدًا ..
المفزعُ حقًا هو أن تعلم يقينًا أنك مشلول لن تقدر حتى على إنقاذ ذاتك ..

المفزع .. هو أن تهتز لموت عددٍ من الضحايا .. لأن كل ما يهم هو العدد ..!!

دعني أخبرُك سرًا: الدمُ يهونُ في العروقِ أولًا على صاحبه، فيصيبُ الهوانُ صاحبَه إلى يوم يبعثون !!

اعذرني يا صديقي، ربما أبدو مشتت الذهن، و لكنك بالتأكيد تدرك إلام أرمي.

...


الجمعة، 21 سبتمبر 2012

هلاوس



أعرف تمامًا قدر المخاطرة التي أُقدم عليها، و لكني اتخذتُ قراري مُتجرِئًا..

في هذا الشارع الشبه مضيء أسير في هدوء، أتأمل الجرارت العملاقة -التي لابد و أنها ملأت الدنيا ضجيجًا يومًا ما- و هي هامدة تنبعث منها رائحة الموت !!

و فجأة ..

- هاو هاو هاو

تتقلص معدتي و ترتعد فرائصي و تزيغ عيناي باحثًا عن مصدر الصوت.!

يا لهذا الجرو المعلون!، ما إن رأى نظرتي الحادة الساخطة حتى خفتُ صوتُه و توارى في جثث الجرارت، و رُحتُ أنا أبتسم بالسخرية انتصارًا.

عدة خطوات أخرى قطعتها حتى صرتُ في قلب الشارع تمامًا، ثم بدأت تتعالى تلك الأصوات الجحيمية غير مبشرةٍ بخير؛ إنه ذا الصوت البغيض، حاد النبرة، مرتفع الشدة يملأ الدنيا زمجرةً كالنباح.. في ذات الآن تلوح حركة شبحية لهياكل ضخمة تمشي على أربعٍ في تحفز..!!!

"يبدو أنها الأم رأت مني ما لم يرقها تجاه الصغير و قررت الانتقام"

هذا ما دار بخلدي، هنا لم أشعر بمعدتي أصلًا، بل و توقفت فرائصي عن العمل و أنا أتخيل أنياب (الكلبة) تخترق لحم فخذي إلى العظام، أو ربما قفزت إلى وجهي تنتزعه انتزاعًا .. هذا الصوت لا يبشر بأقل من هذا !

- ربما إن عدتُ أدراجي نجوت.!
- هيهات فقد قطعتَ شوطًا العودةُ إلى بدايته مستحيلًا ما لم تكن تنهب الأرض كالفهود..!
- ربما التقدم بسرعة فيه النجاة.! 
- هاك تتنازل عن المنطقية تحت وطأة الخوف، إنما تسرع إلى مصيرك يا أحمق.!

صدقني أنا لستُ مجنونًا، كان عليّ مناقشة الأمر و نفسي لإيجاد حل..

"اللعنة، الكلاب تشم الأدرينالين كما نشم عادم السيارات .. لابد أنها تعرف الآن مدى خوفي، أنا بلا شك فريسة ستتسلى بالانتقام منها، ثم تعود ذات الطريق الذي قطعتُه -أنا- منذ لحظات تحملُ ابتسامتي الساخرة المنتصرة، و ربما قطعة من لحمي بين فكيها .... تبًا !!!"

القدر لن ينتظرك بالطبع لتحسم كل قراراتك بتأنٍ، و هكذا كان عليّ أن اتخذ قرارًا.. و ما قررته هـ............

أخيرًا تظهر .. تواجهني تمامًا .. أتصلب .. أراها بعينيّ و لا أحرك ساكنًا .. فقط أعيد الابتسامة الساخرة؛ إلا أن هذه المرة ساخرًا من العته الذي أصابني !

كان عواء (الكلبة) يخرج من "سماعات" دراجة بخارية على هيئة كلمات لها خلفية موسيقية يعرفها الناسُ "بالغناء الشعبي"، و يبدو أن تفتيت الهواء لموجات الصوت هيأ لي ما حدث .!!! 

-تمت-



السبت، 18 أغسطس 2012

ميلاد ..!



على خلفية سوداء تَنَادَيْن فاجتمعن و صِرن يتراقصن بزيِّهن الأحمر المتقد، كُن يُشكلْن أرقامًا، أو هكذا هُيأ لي. ربما رقم (أربعة) أو (سبعة)، ربما (ثمانية) .. على الأرجح (سـ ......

و بينما أنا مستغرق في مشاهداتي إذ بسؤال يأتي من الأعماق:

ترى من ذا الذي أيقظ التنين ؟

أنا التنين إن لم تستنج هذا بعد. 
تطايرت العلل في رأسي محاولًا تفسير الحادث إلى أن قطعني صوت نسائي مألوف ينادي من مكان سحيق:

"على طبيب الطوارئ المناوب التوجه فورًا إلى الاستقبال"

فور أن استيقـتُـنها انفجرَتْ مَآوي الـ "أدرينالين" في دمي فأصبحتُ مهروِلًا، مبعثَرًا، متعثِرًا، متشبِثًا بأدواتي، لا أدري أشر أُريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا!. كنتُ في بضع لحظات قد دلفتُ خارجًا إلى غرفة الاستقبال.

أنا طبيب الطوارئ إن لم تلحظ هذا أيضًا.!

عصبة من الشباب أحاطوا شيخًا شح الدم في عروقة فشحب وجهه، و تشنجت أطرافه، و أشاح الأجلُ عن شبحِ الموتِ محلقًا. أنا أعرف هذا جيدًا .. أرى هذا المشهد ما يزيد عن المائة مرة في الساعة ..!!

الغريب في أمر الشيخ .. ذاك الرضا أحال شفتيه ابتسامة عريضة ..!

تقدمتُ في رصانة، سألتُ عما حدث و ما فتئتُ أطبق قواعد الفحص السريري المعتادة عليه مستنبطًا ما قطعه من شوطٍ في النفق.!

بعد تطبيق الفحص و السؤال عن التاريخ المرضي، همس الشبح في أذني:

- إنه لي .. فلا تبتئس.

أنظر إليه مشفقًا، ثم أحول ناظريّ إلى أهله مشيرًا لأبنائه بلغة العيون باللحاق بي..

- خيرًا يا دكتور ؟

- للأسف .. يحتضر .!

أجهشت صدورهم بالنحيب، و دمعت عينا الطبيب -فيما ندر. و حينما استعاد أحدهم رباطة جأشه سأله:


- كم بقى له ؟
 

- ربما يومان .. ربما أقل .. لا أكثر من ذلك .. هذا قدرٌ معلوم


"على طبيب الطوارئ المناوب التوجه فورًا إلى الاستقبال" 

يا له من يوم عصيب..!، ثم هذا السؤال الفلسفي العميق؛ أنا بالفعل في الاستقبال، فعلام النداء يا امرأة ؟!. هكذا حدثتني نفسي بالسوء.

عصبةٌ من الشباب أحاطوا امرأةً فتيةً تَضَخَم خصرُها فبلغ منتهاه. و بالفطنة استنتجت أنها تضع، و ألا طبيبَ في المستشفى سواي لأباشر عملية الولادة.

- من زوجها ؟
- أنا يا دكتور

شاب في أواخر العشرينات يبدو سعيدًا، وقَّره شاربه و عويناته. أجاب سؤالي متحفزًا فطمأنتُ قلبَه أن الله لطيف لما يشاء، ثم طلبتُ إليه البقاء جار زوجه بينما صَرفتُ الآخرين.

الميلاد ... حدث رهيب، مهيب، يضفي عليه النور لمسة فنية، و يشبعه الخروج من الظلمة بالحياة ... 

ثم ها هو رأس آدمي قد قدر له الله أن يطل علينا.

- ما اسمه ؟
- رمضان ..!
- سأبذل قصارى جهدي لينال ما بقيَ له من نصيب في الحياة مرتاحًا.
- أشكرك نيابة عن إخوتي، اعذرهم فهم لا يحتملون.!
- لا مشكلة، صبّركم الله على فراقه.

و شرعتُ أعلق محاليلًا، و أضخ في دم العجوز أدويةً، و آمر التمريض بالسهر على راحته. حتى اطمأن قلبي لحاله، فلبثتُ غير بعيد.

- كيف الحال يا دكتور؟
- هذا رائع .. إنه يبتسم لي

ابتسم الزوج، ربَّتَ على يد زوجته:

- هانت يا أم .... أي اسم تحبيه؟
- آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه

قاطعتُه قائلًا:

- احم احم، أظنه ليس بوقتٍ مناسب لاختيار الاسم

و في لحظات .. المؤشرات الحيوية تسوء، أحقنُ المزيد من الأدوية، أعلقُ مزيدًا من المحاليل، و لا زيادة إلا في السوء ..! 

عاد الشبح يهمس:

- إنه لي .. فلا تبتئس .. لقد بذلتَ جهدك .. و أرحته في نصيبٍ مفروض .. الآن أتت ساعته .. و انتهى القدر المعلوم.

لم ألق بالًا، و صرت أهرول، و أُعلق، و أَحقن، و أُعيد، و أُزيد .. أما الشبح فقد استقر عند رأسه، و بدا هادئًا -كالمعتاد- حتى أشار رسامُ القلبِ إلى نقطة الأصل..!

هذا مثير للغاية، أنا متحمس، مترقب، متأهب .. 

في لحظات انزلق الطفل بين يديّ، و ما إن لمسهما جلدُه حتى شقّت الحياةُ حنجرته صارخةً.!

صدقني أنا لستُ رقيق القلب، و لكنْ وحدهما دمعتا عيناي؛ ربما لهما إرادة منفصلة عني.!

غطيتُ وجه الشيخ .. 

لففتُ جسد الطفل ..

خرجتُ إلى أهله:

- اصبروا على بلاء الله، و كونوا قومًا مؤمنين.

فخروا إلى الأذقان بُكيًا، و دعوا الله أن تقبل منّا طاعتنا لك في أبينا.

وضعتُه على صدر أمه:

- ها، ماذا ستسمونه ؟

حارا، فكرا، ثم نظرا إلى بعضيهما و قال الزوج:

- لقد أعلمنا طبيبُ التوليد أن المولودَ لنا أنثى، و كنا قد استقررنا على "فرحة".!
- امممم .. فرحة، و ما في أسماء الأولاد يناسب الفرحة ؟
- اقترح يا دكتور
- اممم .. يقول تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.
- لا أظن "فضل" يشير إلى الفرحة.
- صحيح، و لكني سمعتُ من أمثلة الفضل .. العيد .. فهو فضل الله بعد مشقة الصيام .. و "عيد" اسم لصبي يشير إلى الفرحة.

نظر إليها في حنو:

- ما رأيك ؟
- فليكن..!
- فليكن يا أم عيد

"على طبيب الطوارئ المناوب التوجه فورًا إلى الاستقبال"

شعرة دقيقة بين الواقع و الخيال، النوم و اليقظة، الحلم و الحقيقة .. يبدو أني اعتدتُ أن أُدخِلَ تفاصيلَ واقعي إلى منامي فتستحيل حلمًا.!


"على طبيب الطوارئ المناوب التوجه فورًا إلى الاستقبال"

 على خلفية سوداء تَنَادَيْن فاجتمعن و صِرن يتراقصن بزيِّهن الأحمر المتقد، كُن يُشكلْن أرقامًا، أو هكذا هُيأ لي. ربما رقم (أربعة) أو (سبعة)، ربما (ثمانية) ... لا لا .. كفى هذيانًا.!

الآن عدتُ إلى الواقع ..! 

إنها "الرابعة و النصف" صباحًا .. و يبدو أن أحدهم في حالة مزرية يتلهف للعون.

-تمت-