Credits: https://www.facebook.com/pages/Beautiful-Minds/270422259702807 |
...
- إنه الإيفو-نفرنوس
- ماذا؟ من؟؟!
ألتفت إلى يميني لأجده جالسًا مستقرًا متربعًا على حافة السور، دقيق الوجه، حاد القسمات، مُبيَّض الشعر منثوره في رأسه ولحيته، قصير نحيل، لا يبدو عليه الخبال رغم هيئته الموحية، مغمضًا عينينه كأنما يمارس اليوجا... كان غريبًا بحق، وما قاله..!، ثم ما الذي أتى به إلى هنا؟ ما الذي أتى بي أنا إلى هنا؟
- الإيفو-نفرنوس .. الإيفو-نفرنوس بني .. ستعتاد تلك المسميات إن بقيت هنا فترة أطول.
كلامه الدقيق الواثق هذا يثير الريب، ويأجج الحفيظة، يتفصد العقل عن ألوف الأسئلة، ولكن –وكما تعلم- فاللسان دومًا أبطأ، وربما خرج بآخر ما تتمنى أن تسأل عنه:
- ماذا تقصد بالبقاء لفترة أطول؟
لقد رأيته في مكان ما، أنا متأكد من هذا، أشعر شعورًا عميقًا بالألفة، والبهجة ....! لِمَ أشعر بالبهجة؟! لا أعرف..!
- من سبقك هنا لم يكمل ليلته، ثم ذهب.
- ذهب... إلى أين؟
أدار رأسه في ثبات، ثم فتح عينيه وئيدًا، نظر إليّ مطولًا يتفحص عينيّ، فأجفلتُ ناظرًا للأفق.. هل تعرف تلك النظرة التي تخترق الحجب؟، إنها تتجاوز كل الحواجز النفسية التي نضعها أقنعة، تخترقك للأعماق، تشعرُ بأن ناظرها يتجول في ذكرياتك، يقرأ ما تفكر فيه... تتداعى نفسُك كشجرة خريفية تنزف وريقات الألم.........
- لا أعرف بني .. قام من هنا .. وسار على الحافة إلى نهايتها .. ثم قفز .. هناك .. حيث لن أذهب أبدًا.
شيء ما في كلامه يضرب أوتارًا في روحي، أميل برأسي إلى حيث يشير .. ضباب ..!
- أين أنا؟
- معرفتك لن تؤثر بني .. بل استغراقك في التفاصيل .. سيقتلك..!
- من أنت؟
يعلو وجهه شبح ابتسامة:
- أنا ....
- كوااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااك
يقاطعنا صوت ذاك الطائر البهي، إنها المرة الأولى التي أرى فيها طائرًا بهذا الجمال، ممتليء الجسم أقومه، غزير الريش ناعمه، اصطبغ لونه بحمرة تتنفس حياة، واكتست حمرة جناحيه بسواد أظهرهما، عيناه تلتمعان كأنهما شمسان سوداوان، ورأسه مغطى بزغب برتقالي تضيئه الشمس... كان يصعد إلى الأعلى بلا انقطاع، يتمايل رشيقًا قويمًا منسجمًا غير مضطرب، ثم استدار نصف دورة إلى يساره، وجعل يتهاوى ناحيتنا، كان اقترابه سريعًا كالبرق، واصطدامه وشيكًا كالموت، فكدتُ ألقى بنفسي من فوق السور، ولكنّ صاحبي لم يحرك ساكنًا، فتثبَّتُ، عاد يدور إلى يمينه بينما اقترب منا حتى ظننت جناحه قد لامس أنفي، ربما لم يكن ظنًا في النهاية، فأنا أشعر برائحته تملأني؛ هي كعطر يتبخر في تنور، عطر يدفع الدماء في عروقك فيبقيك يقظًا منتشيًا.
أفيق من سكرتي على صوت صاحبي مبتسمًا متسعةً عيناه:
- الإيفو-نفرنوس .. عصفور النار .. إنه أجملهم على الإطلاق..!
قالها واتسعت ابتسامته، ثم تابع:
- أحببته .. أليس كذلك؟
- اممم .. بلى .. بل لم أفعل .. ها .. لا أدري، ولكن تأثيره قوي للغاية .. إنه يسرق روحك .. أتعلم؟
- نعم بني .. أعلم .. تابعه إذن .. إنه يدور لأجلك.
- لأجلي أنا؟
- نعم.
- وما أدراك؟
- أنا أعرف هذا، كما لا تعرف أنت أين أنت..!
- ولكن ...
- صه.. تابعه.
عاد الإيفو-نفرنوس يحلق عاليًا، ينخفض، ويرتفع، يتمايل، ويستقيم، ينظر في عيني مباشرة، ويهبني من ريحه الفواح، حتى توهج زغب رأسه كأنه تاج، أنار الطريق أمامه، فارتفع، وكلما ارتفع توهج التاج، فكشف طريقًا له، فيزداد شهوقًا، فتضطرب أنفاسي لارتفاعه، وكأنما قد سمع وقع أنفاسي فضاعف سرعته، ليزداد وهجه، ويطرد ارتفاعه، وتختلج أنفاسي، حتى ظننته قد شارف الخروج من مجال الكون كله تاركًا إياي مبهور الأنفاس محبوسها .. عندها .. اشتعل رأسه، دون إنذار، لم يوقفه ذلك عن التحليق، فلاذ بارتفاعه فرارًا، وزاد من سرعته هربًا، فما زاده سلوكه هذا إلا احتراقًا، حتى تبدد رماده في الآفاق، وعمت رائحته الأرجاء، واختفى صوته من الأرض والسماء.!
- أحترق؟
- أتظن هذا؟
- رأيته..!
- أتصدق كل ما تراه؟
- بالطبع لا..!
- ماذا تصدق إذن؟
- ما يراه عقلي..!
- أولا يمكنني خداع عقلك؟
- بلى.!
- فكيف إذن تصدقه؟
- لا أصدقه بالكلية بالطبع .. إنما...
- إنما ماذا؟ أهناك أيقن من العقل؟
- امممم .. لا أدري.!
هنا .. سكت صاحبي مطبقًا، وخيم الحرج موقفي، فطفقت أهرب في دهاليز عقلي أستتر، ناظرًا إلى الفسحة الخضراء ذات البواسق العالية والأنهار الجارية، حتى عاد صاحبي ينظر إليّ:
- اسمع بني .. التفاصيل مملة، والتحليلات مهلكة، والنتائج المستقرأَة ربما تكون مخطِئة، الشائع لا يعمم، والعام لا يخصص، والخاص نادر مستهلَك، الحوادث تقع، وإن صح التوقع، ما كان قد كان، وإن استخفت عليك كينونته، فدع عنك التأويل، واستمسك بالقليل، انظر .. أمعن النظر .. ودع قلبك يرى ..!
استغرقت في صمتي، بينما هبّ هو واقفًا فإذا طوله لا يجاوز المتر ونصفه، ثم اقترب مني حتى أحسست أنفاسه على وجهي، ناظرًا في عينيّ ذات النظرة الأولى:
- يمكنك الرحيل متى أردت.
قمت واقفًا بسرعة لا أدري ما أفعل، أكنت سجينه؟، لِمَ أتحرك إذن كمن يفر؟ من هو أصلًا؟ وما هذا المكان؟ أأجري؟ كيف على حافة السور وأنا أعاني رهاب المرتفعات؟ لم صار الضباب كثيفًا؟
- كوااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااك
الإيفو-نفرنوس ؟؟!!! .. صوت صارخ من الخلف:
- لا تنس الإيفو-نفرنوس بني.
- سأحاول..!
- لا تحاول بني .. افعل .. أو لا تفعل .. لا تحاول
هل هو ....!؟
ألتفت خلفي لأراه، فلا أرى سوى الضباب..! أتنشق نفسًا عميقًا من الغيظ، وأغمض عيني طويلًا، توازني يهتز، أتأرجح، أحاول السيطرة، مرة، فثانية، قدم تزل، أخرى تحاول، سأسقط .. بل سأقفز.
أنبوب سباحة دودي، أصر على إغلاق عينيّ بينما أتجاوزه، بينما صوت بعيد آخر يقترب:
- نمت قدام الفيلم ..!
- معلش .. كنت تعبان شوية.!
أعلى يمين الشاشة رمز القناة، وأعلى يسارها اسم الفيلم، فيما المعلم "يودا" يخاطب أحدًا ما:
- لا تحاول بني .. افعل .. أو لا تفعل .. لا تحاول.
...
تمت
...